بشير مصطفى - اندبندنت عربية
يعود ظهور البلديات في لبنان إلى الحقبة العثمانية، وتعتبر بلدية بلدة دير القمر (قضاء الشوف في محافظة جبل لبنان) التي تأسست عام 1864 أول بلدية في تاريخ لبنان، تزامناً مع صدور قانون التنظيمات العثماني، ووضع بروتوكول متصرفية جبل لبنان موضع التنفيذ الذي كرّس الاستقلال الذاتي لتلك المنطقة التي شكلت نواة دولة "لبنان الكبير" التي أُعلنت عام 1920.
ففي أعقاب الفتنة الطائفية التي نشبت بين الموارنة والدروز عام 1860، أعطي جبل لبنان وضعاً إدارياً خاصاً، وصارت المتصرفية تُدار محلياً من قبل متصرف مُكلف من الباب العالي، على أن يكون من رعايا السلطنة العثمانية المسيحيين غير اللبنانيين، وكان داوود قرابيت أرتين، وعُرف باسم داوود باشا، أول من تولى هذا المنصب.
يذكر المؤرخ طه الولي في كتاب "تاريخ بيروت في التاريخ والحضارة والعمران" أنه "في السنة نفسها التي أُعلن فيها جبل لبنان متصرفية ممتازة، ألغت الدولة العثمانية جميع التقسيمات الإدارية في البلاد السورية مع الإبقاء على الامتيازات اللبنانية"، "وفي عام 1888 التمس أهالي بيروت من السلطان عبدالحميد الانفصال عن ولاية سورية وإنشاء ولاية مستقلة تكون مدينتهم مركزاً لها، فاستجاب السلطان لهذه الرغبة نظراً إلى ازديار أهمية بيروت وحساسيتها"، وفي عهد الانتداب الفرنسي صدر القرار 1208/ 1928 الذي منح مقاعد لكل طائفة بحسب أعداد ناخبيها في المناطق.
العائلات الكبرى تفرض نفوذها
طغت صبغة الأعيان على البلديات في صورتها البدائية، وشكلت فرصة للعائلات الكبرى لفرض نفوذها إلى أن جرت أول انتخابات بلدية شاملة عام 1952، وفي ذاك العام عيّنت ثلاث نساء في مجلس بلدية بيروت، ومن ثم انتخابات 1963 مع صدور قانون البلديات، وعلى رغم أن القانون يحدد ولاية البلدية بأربعة أعوام وينتخب أعضاء المجالس بالتصويت المباشر وفق المادة الـ (36) من القانون القديم، وستة أعوام وفق المادة الـ (10) من قانون رقم (665) الصادر عام 1997 والساري حالياً، إلا أن الانتخابات لم تنظم مجدداً إلا في عام 1998، عقب أعوام من انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، وتكررت بعد ذلك عام 2004، أما في مايو (أيار) 2016 فنظمت آخر انتخابات بلدية في لبنان.
وجاءت ولادة البلديات ضمن جو سياسي عام يرتكز على تكريس استقلالية الولايات في إدارة شؤونها الضيقة عن السلطة المركزية، واليوم وبعد ما يزيد على قرن ونصف القرن، يتجدد هذا المطلب في لبنان بسبب ضعف مؤسسات الدولة المركزية، وازدادت الدعوات إلى منح البلديات مزيداً من الاستقلالية والصلاحيات بعد التأجيلات المتلاحقة لموعد الانتخابات المحلية في لبنان، والتي كانت آخرها في أبريل (نيسان) 2024 بحجة الأوضاع جنوب البلاد، والتي أعقبت عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. وجرى التمديد الأول للمجالس الحالية عام 2022 بحجة تزامنها مع الانتخابات النيابية، وهو ما كان مثار استغراب، والثاني في 2023 بسبب عدم تأمين التمويل الكافي.
ديمقراطية مشوّهة
تعيش بلديات لبنان حالاً من العجز، حيث تتكدس النفايات في الطرقات وتسيل مياه الصرف الصحي أنهاراً في الأحياء، كما تغيب الخدمات الأساس عن القرى وتتحول المشاعات والغابات إلى مناطق مستباحة لأشكال الجرائم البيئية كافة مع عدم معاينة الأبنية المتهالكة، ويبرر رؤوساء البلديات تراجع العمل وغياب الخدمات بعدم وجود أموال كافية، وتعقيد الإجراءات الإدارية والخضوع للسلطة الرقابية.
ولا تقتصر الأمور على بلديات من دون أخرى ولا على رؤساء البلديات وأعضاء المجالس، وإنما يتجاوزها إلى بعض الموظفين النافذين، ففي مدينة الميناء (شمال) مثلاً، ذات البلدية المنحلة بسبب الولاءات السياسية المختلفة لأعضائها، تكشف أوساط عن عملية اختلاس مبلغ يقدر بـ 1.5 مليون دولار أميركي على يد موظفين انين، وادعت البلدية عليهما بانتظار المحاكمة، ناهيك عن طريقة الإدارة التقليدية القائمة على إنشاء اللجان وتبادل المصالح والمنافع واستغلال أدوات البلدية من أجل تكريس النفوذ السياسي، أو تنظيم مهرجانات، أو إنشاء الحدائق والمساحات العامة.
وتشير أوساط متابعة إلى أن "البلديات خسرت أموالاً هائلة بفعل الانهيار وادخار الفائض بالليرة اللبنانية لدى مصرف لبنان، فأصبحت عاجزة وغير قادرة على شراء مصباح أو كيس أسمنت، إذ تضاعفت الكلف 100 ضعف فيما زادت الرسوم 10 أضعاف فقط، بينما تذهب غالبية مداخيل الصندوق البلدي المستقل إلى الشركة المتعهدة بكنس وجمع النفايات، ولم تعد الأموال متوافرة لتأمين البنزين والصيانة لسيارات البلدية وشرطتها، لذلك تقننت الخدمات كافة".
ما بين الفراغ وتصريف الأعمال
وفي أعقاب التأجيل الثالث أثيرت مخاوف كبيرة في لبنان من تكرار تجربة عام 1963، إذ عاشت المجالس البلدية حقبة الفراغ والشغور، وفي أحسن الأحوال "تصريف الأعمال"، حيث فاقت الفترة الممددة ولاية المجالس المنتخبة، كما يبرز التساؤل عن جدوى الديمقراطية في ظل تعطيل الانتخابات وحق المواطنين في الاختيار، ويرى وزير الداخلية السابق المحامي زياد بارود أن "تأجيل الانتخابات في بعض المناطق اللبنانية أمر مفهوم بسبب الظروف القائمة والوضع العسكري، وهي مناطق ليست أقل لبنانية من غيرها، ولكن كان بالإمكان تجنب التمديد الشامل في المناطق كافة لأن أضراره كبيرة على الواقع البلدي".
ويأسف بارود لتكرار النمط التمديدي الدائم الذي يعبر عن "وجود رغبة دفينة ودائمة عند الأكثرية الساحقة من الطبقة السياسية بعدم إعطاء الناس الحق بالخيار على المستوى المحلي، وتداول السلطة لأنها لا تحبذ الانتخابات البلدية وتفضل تجنبها، وظهر ذلك بدءاً من عام 1967، وكان في الفترة السابقة على حرب الأيام الستة في يونيو (حزيران)، وظل التمديد إلى عام 1998"، لافتاً إلى أن "انتخابات 1998 جاءت نتيجة ضغط شعبي، وقرار المجلس الدستوري الذي أبطل في حينه قانون التمديد للبلديات".
ولا يستبعد بارود تكرار التمديد العام المقبل، مبرزاً "الحجج غير المقنعة التي تُستخدم لتمرير التمديد تلو التمديد"، لأنه "في المرة الأولى جاء التمديد بحجة التزامن مع الانتخابات النيابية، وهذا أمر غير صحيح بسبب جهوزية وزارة الداخلية التامة في حينه، ولم يكن هناك من حاجة إلا إضافة صندوق اقتراع بلدي، وكان من شأنه التوفير على خزينة الدولة والناس"، فيما جاء التمديد الثاني بحجة عدم توافر التمويل، علماً أن الحكومة أنفقت أكثر من 700 مليون دولار أميركي من حقوق السحب الخاصة SDR، وعلماً أن كلفة إجراء الانتخابات لا تتجاوز 9 ملايين دولار أميركي، أما في التجربة الحاضرة فكان بالإمكان أن يقتصر التأجيل على المناطق المعرضة للاعتداءات الإسرائيلية، كما كان بالإمكان أن يُلاحظ إجراءها فور وقف إطلاق النار، وربما في نهاية الصيف إن أمكن".
الطعن في التمديد
تعرضت قوانين التمديد لطعون متلاحقة، ولكن على خلاف موقف المجلس الدستوري عام 1997 لناحية إبطال قانون التمديد، فإن رد الطعون كان جاهزاً بذريعة عدم الوقوع في الفراغ.
ويعارض بارود هذا التوجه لأنه "عندما يقرر المجلس الدستوري إبطال قانون يعتبر كأنه لم يكن، ويتعين على الحكومة أن تنظم انتخابات على غرار ما حصل عام 1998، حين اضطرت إلى ذلك في حينه"، أما في حال عدم إجراء الانتخابات فيشير بارود إلى أن "نظرية تصريف الأعمال الحكومية لا تنسحب على البلديات، إذ يمكن أن يتولى المحافظ أو القائمقام إدارة عمل البلديات موقتاً بقرار من وزير الداخلية، ولكن هناك مشكلة على مستوى المخاتير بسبب عدم وجود نص يسمح للمختار بالاستمرار في العمل وفق أية صيغة".
وينتقد بارود عدم إجراء الانتخابات الفرعية في 136 بلدية منحلة غالبيتها تقع خارج المناطق المتأثرة بالأعمال الحربية، علماً أن القانون يلزم بإجراء الانتخابات لسد الشغور خلال مهلة شهرين، ولكن هذا لم يحصل بسبب عدم الرغبة في انتظام عمل البلديات". كما ينبه إلى توجه معظم رؤوساء البلديات إلى رفض الاستمرار بالعمل بسبب عدم توافر الاعتمادات.
نحو اللامركزية الموسعة
ويطالب بارود باعتماد قانون اللامركزية الموسعة الذي عمل هو عليه بتكليف من الحكومة اللبنانية، لأنه ينطلق من "اتفاق الطائف" الذي تم التوصل إليه لإنهاء الحرب الأهلية، ويعتقد أنه "الأنسب للبنان، والبلديات هي إحدى أشكال اللامركزية"، ولذلك، يصف وزير الداخلية السابق حرمان المواطنين من الحق بالتعبير محلياً بـ "الخطير"، لأنها تكرس مبدأ تداول السلطة الدستوري، وتجديد الوكالة الشعبية.
تاريخ النشر:2024-06-24