
خاص بموقع جمعية العمل البلدي - نادين عباس
البلدية ليست مجرد إدارة محلية تُعنى بتنظيم شؤون البلدة، بل هي الحارس الأمين لذاكرتها وتاريخها. فمن خلال الأرشفة البصرية والتوثيق، يمكن للبلديات أن تحفظ معالمها، وتخلّد وجوه أبنائها، وتسجّل تحوّلاتها العمرانية والاجتماعية، ليبقى كل تفصيلٍ شاهدًا على ماضٍ يروي للأجيال القادمة قصة المكان والزمان.
في عيناثا، حمل السيّد عباس توفيق سمحات، المعروف بـ"أبو مهدي" أو كما يُطلق عليه "أبو الشهداء"، على عاتقه هذه الرسالة. فلم يكن مجرد مصوّرٍ في البلدية، بل كان مؤرشفًا بصريًا يوثّق بحب وشغف وجوه الناس، والمناسبات، والأماكن التي تحكي تاريخ البلدة.
منذ صغره، كان شغوفًا بالتصوير، يلتقط بعدسته زهر اللوز في الربيع، وأمواج بيروت، وصخرة الروشة، ليصبح لاحقًا شاهدًا على التحولات التي شهدتها عيناثا، وموثقًا لذاكرتها التي لا يجب أن تندثر.
في عام 2012، توظّف الحاج أبو مهدي في بلدية عيناثا، مسقط رأسه، كمصوّر لموقع البلدية، مدفوعًا بهواية وشغف كبيرين. جمع أبو مهدي أرشيفًا ضخمًا من الصور المتنوعة، ما دفعه اليوم إلى التفكير في إقامة معرض يجمع هذه الصور التي تحمل الكثير من الذكريات والتراث في عيناثا.
يطمح أبو مهدي أن يكون هذا المعرض الذي سيعرض في عيناثا انطلاقته الأولى، على أن يتوسّع لاحقًا ليشمل مناطق أخرى. فهو لا يريد أن تقتصر أعماله على الضيعة فقط، بل يسعى إلى المشاركة في أي فرصة متاحة لعرض ما وثّقه من صور، حتى يصل إلى معارض مختلفة على مستوى لبنان.
يقول أبو مهدي: "خضتُ هذا المشروع من الناحيتين العملية والمادية بمفردي. كنتُ أجمع المال وأقرر أن أشتري به إطارات للصور. ورغم أنني بدأت وحدي، إلا أنني أطلب دعمًا معنويًا من الجميع".
أرشيف يوثّق الزمن
هواية أبو مهدي مع التصوير قديمة، وكانت 2012 فرصة لتجميع المزيد من الصور وبناء أرشيف أكبر. استطاع في صوره أن يلتقط الجيل القديم، أولئك الذين كانوا يرتدون "الحطة والعقال"، فكان لديه شغف كبير لتصويرهم، فضلاً عن البيوت الحجرية القديمة التي يزيد عمرها عن الخمسين عامًا. وكلها صور توثّق بلدته عيناثا. وحفاظًا على الذاكرة، حرص أبو مهدي على كتابة تاريخ التصوير على كل صورة.
يؤمن أبو مهدي أن الصورة ليست مجرد توثيق، بل حفظٌ للهوية. فقد التقط صورًا لشخصيات بارزة، من علماء دين، ووزراء، ونواب، وإعلاميين، مثل السيد هاشم صفي الدين، والشيخ نعيم قاسم، والشيخ نبيل قاووق وغيرهم. يقول في حديث لموقع جمعية العمل البلدي إن "في هذا الأرشيف، توجد العديد من الصور لأشخاص أصبحوا اليوم شهداء، ومن بينهم ولداي الشهيدان". ويضيف: "لطالما بادرت إلى توثيق اللحظات المهمة في حياة الناس، حتى في أوقات العزاء والجنازات تخليدًا للذكرى. كما تم استدعائي إلى بيروت لتصوير مناسبات متعددة".
يشير أبو مهدي إلى أن المخطط كان أن يتم إطلاق معرض الصور في ذكرى استشهاد ابنه الصغير توفيق، ذو الـ 18 عامًا، لكن الحرب واستشهاد ابنه الكبير مهدي حالا دون ذلك، حتى تم اختيار التاريخ 25/5/2025 كموعد للانطلاق.
دور البلدية في حفظ الذاكرة وتوثيق التاريخ
تعتبر البلدية قلب المجتمع المحلي وأداة أساسية في حفظ وتوثيق تاريخ البلدة وجذورها. من خلال الأرشيف البلدي، يمكن الحفاظ على تفاصيل الحياة اليومية للأجيال القادمة. وفي هذا السياق، يعبّر أبو مهدي عن رغبته قائلًا: "أتمنى أن تقوم كل بلدية بتوظيف شخص مسؤول عن توثيق أرشيف البلدة، وأن تتبنى كل بلدية مشروع توثيق مشابه، فلا يقتصر الأمر على نشر الصور على فيسبوك أو المواقع الإلكترونية، بل أن يكون هناك أرشيف شامل، يعكس تاريخ البلدات كما هي، بتفاصيلها وناسها".
توثيق اللحظات والذاكرة الجماعية
يؤكد أبو مهدي أن هدفه لم يكن جمع الصور والاحتفاظ بها فقط، بل أن يراها الناس، ليسترجعوا ذكرياتهم وأيامهم. ويضيف: "الضيعة ليست أقل شأنًا من المواقع السياحية، وهي في تغير مستمر، وما كان يومًا حاضرًا، سيصبح يومًا ما تراثًا". ويضيف: "اليوم، تختلف الضيعة عن الماضي، فهي تتغير وتتجدد يومًا بعد يوم. وما كان يومًا حاضرًا، سيصبح يومًا ما تراثًا وذاكرة".
الصورة وصلة الرحم
يؤمن أبو مهدي بأن الصورة تمتلك بُعدًا عاطفيًا عميقًا، فهي امتداد لصلة الرحم وحفظٌ للذكريات. ويقول: "صوّرت الكثير من الإخوة والأهل، فهناك صور عائلية تضم أشخاصًا رحلوا عن الدنيا، لكن ملامحهم بقيت حاضرة في الصور. لقد اعتبرتُ أن الصورة ووصل الرحم وجهان لعملة واحدة، فهي جسرٌ يربطنا بأحبّتنا، تحفظ تفاصيلهم، وتُبقي ذكراهم نابضة في قلوبنا".
ويلفت إلى القيمة الكبيرة التي يحملها الأستاذ في حياة طلابه، قائلًا: "دائمًا ما يكون هناك مربٍّ فاضل يترك أثره في أجيال من التلاميذ. واليوم، عندما نعرض صورة لأستاذ رحل منذ 50 عامًا مثلًا، فإن كل من تتلمذ على يديه سيشعر بفرح غامر، لأن هذه الصورة تعيد إليه مشاهد من ماضيه وذكريات لا تُنسى".
العدسة: أداة الصمود والذاكرة
وعن تغطيته العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، يؤكد أبو مهدي على قوّة العدسة في صنع الفرق وتوثيق تجسيد لحظات الصمود، مشدّدًا على أنه رغم كل الألم والوجع، ورغم التحديات والصعاب، تبقى الإرادة هي المحرك الذي لا يعرف الانكسار. "نحن هنا نثبت أن العزيمة أقوى من أي ضيق، وأعلى من كل عقبة. ستظل الذاكرة حية فينا.. لا يستطيع العدوان أن يمحوها أو يطمس معالمها."
يختم أبو مهدي كلامه لموقعنا بالدعوة لإفتتاح معرضه للصور الفوتوغرافية، واعدًا بأن يضم أجمل اللحظات والذكريات من عيناثا، وصورًا تخبر قصصًا من قلبها، محفورة في الذاكرة مهما مرّ الزمان.
تاريخ النشر:2025-03-11